أثلم القلبَ وأحزن الفؤادَ ما رأيناه وسمعناه من الاعتداء على جناب نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم ، مع علمنا أن الاعتداء على جناب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس أمرًا جديدًا، بل هو موجود منذ بعثته صلى الله عليه وسلم إلى آخر زمان أمته، ولكن صوره هي التي تتغيّر، وهذا من سنُّة الله في الكون، فأهلُ الباطل يؤذون أهلَ الحقّ، فيردّ أهلُ الحقّ بما يُظهِره، ولولا هذا لركنوا، لكنّ الله يدفعهم بأهلِ الباطل.
وليُعلم أنه ما تُعرِض للإسلام، ولا لنبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إلا بعد أن تهاون أهلُ الإسلام بالإسلام، والحل هو في النصرة الحقيقية له ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أنه ليس محتاجًا لنا، والله قادر على نصره دوننا، لكن ما نقوم به من النصرة هو دورنا الذي نتعبد الله به.
ولنتعرف على صورة النصرة الحقيقية علينا عرض هذه الحادثة على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيهما تبيانًا لكل حادثة تحدث. يقول الله تعالى مخاطبا نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ^ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ^ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ^ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ^ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ^ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[1].
فقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: لا تبالِ بهم وبتكذيبهم واستهزائهم وكفرهم, ولا يصعب عليك ذلك ولا تلتفت إليه, واترك مشاتمتهم ومسَابَّتَهم, فهم سيحاجّونك ويخرجون مِن كلامك ما هو متشابه؛ ليعارضوك ويطعنوا فيما أتيتَ به.
وهذا هو الواقع الآن.. هم لن يتركونا، سيخرجون مِن كتابنا المتشابهات، ويتكلمون عنها، ويشبّهون على أهل الإسلام بمسائل لم تخطر في بالهم.
ونحن دورنا: الإعراض عنهم وعن شُبَهِهِم، إلا إذا دخلت الشبهة في قلوب أهل الإسلام, فحينئذ تُفنَّد وتُناقَش, وإلا فالأصل عدم السماع لشبههم مطلقًا ولا للحوارات التي تدور بين مسلم ونصراني.
ثم بيّن-عزَّ وجل-سبب أمره بالإعراض عنهم فقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}، قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "إنّا كفيناك المستهزئين -يا محمد- الذين يستهزئون بك, ويَسخرون منك, فاصدع بأمر الله ولا تخف شيئًا سوى الله, فإنّ الله كافيك مَن ناصَبَك وآذاك"[2].
فلمّا تنتهي شُبه المشركين يلجؤون إلى الاستهزاء بما يهزّ القلوب ويجرح المشاعر، فيكون الاستفزاز ليس من جهة الشبهة، بل من جهة الاستهزاء فيمَن نراه معظّمًا, وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فنعرض عن استهزائهم, ونعلم يقينًا أن الله سيكفّ عن أهل الإسلام شرورَ هؤلاء المشركين المستهزئين.
و تكون كفاية الله بأمور: أن الله عز وجل يجعل نشرَ الحق على أيديهم، فيتحوّل فِعلُهم إلى حسرةٍ وندامةٍ عليهم.
وهذا من السنن؛ أن يُنشَر ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برغم أنف الكارهين! بل يُنشر على لسانهم!، وهذا زيادة بلاء عليهم، وعلينا أيضًا؛ لنزداد يقينًا بقدرة الله على نشر دينه.
يُسلِّط اللهُ عليهم مِن أنفسهم مَن يُظهِر الحقّ.
يرفع الله ذكر نبيّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاّ ولابدّ، وينشر عنه ما طُوي من جميل ذكره، فيقع في قلوب الناس هيبته ومحبّته.
فنحن - مِن إيماننا باسم الله الكافي - نؤمن أن الله كافينا استهزاءَ المستهزئين, كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[3]} وقال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ[4]}.
فالنصرة الآن لا تكون بمواجهة السّابِّين, بدلالة هذه الآيات، فالنفوس تتحرك بما تعلم عن الله وليس بما تتصوره مِن ردة فعل تظنها صحيحة, وأكثر الصور المشهورة للنصرة مخالفة للنص، بل وليست مستندة إلى دليل، وقد جرّب القومُ مثلَ هذه الصور للدفاع عنه-صلى الله عليه وسلم-، فإذا النتيجة: المخالفةُ في ثلاثة أبواب: باب الأسماء والصفات، وذلك في ضعف الإيمان باسم الله "الكافي".
باب الألوهية، حيث ظهر قوم يَدْعُون إلى تعظيم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورفعِه فوق منزلته.
باب الأوامر، وذلك بتركنا ما أمرنا به في مثل هذا الحدث.
قد يقال: جرّبنا التوكل على الله فلم نُنصَر. نقول: مثل هذا – القائل - لن يُنصَر؛ لأن الله- عز وجل - لن يُرِي أحدًا كفايتَه إلا إذا كان واثقًا به، والذي يعتقد كمالَ صفات الله عز وجل هو الذي يعتقد أن الله نِعْمَ الوكيل والنصير.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك، ثم قال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} نعلم يقينًا أن كلّ من استهزأ؛ سيريه الله نصرةَ نبيه-صلى الله عليه وسلم-.
وشاهد هذا موجود, فما تعرض أحد لجنابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أراه الله عاقبته في دنياه قبل آخرته.
و قد يطمئنُّ بهذا كثيرون، ويقولون: إذًا ليس علينا فعلُ شيء!
فنقول: قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} فلابدّ من الضيق، فلا يكون منّا البرود, وهذا الضيق محمود, فإن أرادوا تقليلَ قيمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفوسنا، فالواجب أن لا تكون ردةُ الفعل إلا زيادةَ تعظيمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التعظيم الشرعي بلا غلو ولا جفاء.
فالقوم ينقسمون إلى شقين:
قوم تأخذهم حميّة الجاهلية.
وقوم تنزل عليهم السكينة، قد علموا أن الله سيكفيهم، بالرغم من الحرقة التي في قلوبهم.
و العمل هو كما قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ*وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، فهذه هي الدائرة العظيمة, وهي النصرة الحقيقية, فإذا ضاق صدرُك فتعبَّد لله، هم يزدادون طعنًا ونحن نزداد تمسكًا وتعلّقًا بالله-عزَّ وجل-.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}
قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى-: "وأصل التسبيح في اللغة: الإبعاد عن السوء. ومعناه في عُرف الشرع: تنزيه الله-جلَّ وعلا-عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
وقوله: { بِحَمْدِ رَبِّكَ}أي: بالثناء عليه بجميع ما هو أهله من صفات الكمال والجلال.
فتستغرق الآية الكريمة الثناء بكل كمال؛ لأن الكمال يكون بأمرين: أحدهما: التخلي عن الرذائل, والتنزيه عما لا يليق, وهذا معنى التسبيح.
والثاني: التحلي بالفضائل, والاتصاف بصفات الكمال, وهذا معنى الحمد." ا هـ.
إذًا التسبيح: هو اعتقاد أن الله كامل الصفات, وتنزيهه عن النقائص في أقواله، وأفعاله، وما ينزله على العباد، وهذا يورث حسن الظن به تعالى.
فالمسبِّح لله لا يكون إلا محسن الظّن بربه, فلكي ننصر نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصرة حقيقية: يجب أن نحسن الظن بربنا، فأهل العلم يقولون أن: أول علامة زوال البلاء: زوال كل أحد سوى الله مِن قلب المبتلى، أي: يعلم أنه سيأتيه الفرج عندما ييأس مِن كل أحد غير الله، فعليك أن تحسن ظنّك بالله، و تسيء ظنّك بالناس من جهة العلم بحقيقتهم، وأنهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًا.
لكن الواقع اليوم هو سوء الظن بالله، و من صور ذلك: الشك بوعد الله، كمن يشك بنصرة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم, "فمَن ظنّ به أنه لا ينصر رسله, ولا يتمّ أمره, ولا يُؤيّده ويُؤيّد حزْبه ويُعليْهم, ويظفرهم بأعدائهم, ويُظهرهم, وأنه لا ينصر دينه وكتابه, وأنه يُدِيْل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحلّ معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدًا؛ فقد ظن بالله ظن السوء, ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته, فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك, وتأبى أن يذل حزبه وجنده, وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به, فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله"[6]، قاله ابن قيم الجوزية- رحمه الله تعالى-.
إذًا: كلما خطر في بالك سوء ظنٍ بالله؛ فأبعده عن ذهنك, و صفه تعالى بالكمال عن طريق التسبيح, فبحسن ظننا بربنا نشهد لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكمال رسالته, و أنّه علّمنا حُسْنَ الظنِّ بربِّنا، والناتج من هذا: أن يعيش العبد راضيًا عن ربه.
فكل من نصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبيًا.
وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [ فعلا بفعل السجود، و اعتقادًا باعتقاد التذلل لله عزّ وجلّ.
فالله لمّا أرشد نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإزالة ما حلّ به مِن ضيق, أرشده للسجود. فكُل من أراد نصرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابد أن يتعلم الذلَّ لله عز و جل, فقد أُرسِل ليكون الناس عبيدًا لله, منكسرين متذللين له، فما مِن أمرٍ أمرنا به ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا وفيه تعبيدُنا لله-عزَّ وجل-, فقطع عن قلوبنا التذلل والتعلقَ بأيّ أحدٍ سوى الله, حتى به-صلى الله عليه وسلم-, وكلما ازداد العبد ذلا ًلله؛ زاد رضًا بقضائه، وعلم أن ما أصابه من ضيق إلا وفيه خير له.
هذا ما تيسر ذكره، فإن أصبنا فمن الله، وإن أخطأنا فمن أنفسنا والشيطان، ونستغفر الله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
للأستاذة/أناهيد السميري حفظها الله